يعرض الكتاب مسألةٍ كبرى من مسائل الكيان اللبناني و شرح لمراحل هذا الكيان منذ تأسيسه وحتّى الأمس القريب، ولدور الطائفة السنيّة في مجالات السياسة والاقتصاد والإدارة في الدولة اللبنانيّة.
تسهب الدكتورة غريس في تفصيل تلك المراحل وما جرى خلالها من تغيّراتٍ حيناً وتحوّلاتٍ أحياناً في نظرة السنّة وأدائهم عبر مسيرة هذه الدولة في تاريخها الحديث.
ولا تغفل عن الخلفيّات العقائديّة والتاريخيّة للمكوّن السنّي، وعن الاختلافات في صفوفه، وصولاً إلى اتّفاق الطائف.
فقد شكّل اتّفاق الطائف تعويضاً للسنّة عن عهود البُعد النسبيّ عن أجواء الانتساب للبنان كما كوّنته سلطات الانتداب الفرنسيّ كوطنٍ للموارنة فيه امتيازات، وفي عهود ما بعد الاستقلال حيث هيمنت "المارونيّة السياسيّة" على معظم مراكز القرار وعلى رأسها مركز رئاسة الجمهوريّة.
لقد وجد السنّة في اتّفاق الطائف فرصتهم للعودة من الباب العريض إلى إدارات الدولة ومرافقها، مدعومةً بالتعديل على صلاحيّات رئيس الوزراء، الذي انتقلت إليه الكثير من صلاحيّات رئيس الجمهوريّة ووُضعت السلطة التنفيذيّة في يد مجلس الوزراء مجتمعاً.
لعب رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري الذي ترأّس الحكومات في معظم فترة التسعينات، دوراً مهمّاً في تدعيم سلطة المركز السنّي الأوّل في الدولة، لما كان يتمتّع به من مواصفاتٍ شخصيّةٍ وعلاقاتٍ داخليّةٍ وخارجيّةٍ وازنة.
لكنّ سلطة رئيس الوزراء كانت مرهونةً بالتفاهم مع سلطة الوصاية السوريّة، وبمحاولة التوازن الصعب مع الطائفة الشيعيّة، التي استمرّت في صعودها السياسي وتزايد قوّتها العسكريّة المتمثّلة بحزب الله.
إلى هنا، كانت الأكثريّة في الطائفة السنيّة مواليةً لرئيس الوزراء وخطّه السياسي.
ولكن، مع وصول رئيس الجمهوريّة إميل لحّود عام 1998، بدأت الأحوال تتبدّل، فالرئيس لحّود سعى لتعديل ميزان القوى لصالح رئاسة الجمهوريّة مستقوياً بالدّعم السوري، ما أدّى إلى التصادم الحتميّ مع رئيس الوزراء وخروجه من الحكم.
واستمرّ التباعد، إلى أن أتى عام 2004 حيث جرت أحداث داخليّة تمثّلت بالتجديد للرئيس لحّود وأحداث خارجيّة تمثّلت بصدور القرار الأمميّ 1559 وقانون محاسبة سوريا الذي أقرّه الكونغرس الأميركي.
وانضمّ الرئيس الحريري إلى المعارضة، ونشأ انقسام عاموديّ في البلد.
وبلغ التصادم بين الفريقَين أوجَه يوم اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 14 شباط 2005، فأصبح فريقا 8 و14 آذار على طرفَي نقيضٍ وجرى تحشيد شعبيّ متبادل، واتّسم الانقسام بالطابع السنّي - الشيعي، وانسحبت القوّات السوريّة من لبنان.
ملأ حزب الله الفراغ الذي تركه الانسحاب السوري، وورث نجل الحريري سعد المعارضة التي ضمّت أطيافاً واسعةً من اللبنانيّين سنّةً وموارنةً ودروزاً.
وجاءت السنوات التالية لتظهر ضعف أداء الرئيس سعد الحريري، الذي تولّى عدّة حكوماتٍ بعد الانسحاب السوري، ولكنّه لم يستطع الحفاظ على وحدة قوى 14 آذار وعلى الأكثريّة المؤيّدة له داخل طائفته.
في مقابل هذه التراجعات، أثبتت "الشيعيّة السياسيّة" قدرتها على التحكّم بالسلطة، عن طريق فرض خياراتها أو تعطيل كلّ قرارٍ أو تحرّكٍ سياسيٍّ مناوئٍ لها ولا يتّفق مع مصالحها.
واستنزفت الانتخابات النيابيّة المتتالية سلطة رئيس الوزراء ومقاعده النيابيّة.
وبالتوازي مع الحرب التي اندلعت في سوريا منذ عام 2011، وميلان الدفّة فيها لصالح النظام السوري وحليفه حزب الله، تعزّزت قوّة الشيعيّة السياسيّة على حساب السنيّة السياسيّة.
فكان من تداعيات كلّ ذلك، خروج أصواتٍ سنيّةٍ عن طاعة الرئيس سعد الحريري، وقيام تنظيماتٍ سنيّةٍ متطرّفةٍ تحاول الوقوف في وجه فائض القوّة لدى الشيعة.
وجاء انتخاب العماد عون لرئاسة الجمهوريّة اللبنانيّة عام 2016 تكريساً لانتصار الشيعيّة السياسيّة وحلفائه